الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، أمّا بعد:
إنّ لعلم التوحيد منزلةً عظيمة، فتوحيد الله تعالى هو أول واجبٍ على المكلف، بل هو أول ما يَدخل به الإنسان إلى الإسلام، فلا يدخل الإنسان إلى الإسلام إلا بتوحيد الله تعالى.
تصنيف المتون المختصرة في العقيدة:
ولقد حرص كثيرٌ من العلماء على تصنيف متون مختصرة في العقيدة، فهناك: عقيدة البخاري، وعقيدة الأصفهاني، وعقيدة الطّحاوي، والحائية لابن أبي داود، ومعنا اللاميّة لابن تيمية.. وكلّها مختصرات! وسبب تأليف العلماء رحمهم الله تعالى للمختصرات، ليسهل على طالب العلم حفظها، فالمتون المختصرة تعتبر كالقاعدة لطالب العلم، وتكون كالمنطلق لبداية الطلب، ولذلك قال العلماء: "من حفظ المتون حاز الفنون".
فأول ما يُقعِّد به طالب العلم هو: حفظ المتون العلميّة، فهي تعينه على التأصيل، وحُسن البيان، وقُوّة الحجّة، لذا أقترح على الإخوة المشتركين في هذه الدورة، أن يحفظوا هذه المنظومة النافعة، ويدعوا أولادهم لحفظها، ويجعلوا لهم مسابقة، ويخصّصوا الجوائز والحوافز على ذلك، حتى يتربّى الجيل على العلم النافع، والعقيدة الصحيحة.
* نسبة القصيدة لابن تيمية:
ونحن في هذه المجالس العلميّة، سنشرح منظومةً مختصرةً نافعةً في علم التوحيد، وهي منظومةٌ من البحر الكامل، منسوبةٌ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعدد أبياتها ستة عشر بيتًا، وتسمّى "اللاميّة"، لأن أواخر أبياتها تنتهي بحرف اللام، وهذه المنظومة تضمنت بعض ما يجب اعتقاده، في المسائل المتعلقة بأصول الدين.
وقد قلتُ "منسوبةً لابن تيمية"، لأنّ بعض أهل العلم شكّكوا، في صحّة نسبة هذه القصيدة لابن تيمية، وحجتهم: أنّ المترجمين لشيخ الإسلام رحمه الله، لم يذكروا هذا النظم من جملة مؤلفاته.
بينما فريقٌ آخر من العلماء، نسبها إلى ابن تيمية، لأنّها وُجدت مخطوطةً بين رسائله، فتوجد قبلها رسالة لشيخ الإسلام وبعدها رسالة له، وكتب على بعضها (عقيدة ابن تيمية).
ومن العلماء الذين نسبوها لابن تيمية: أبو البركات خير الدين الألوسي في كتابه جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، والشيخ أحمد بن عبد الله المرداوي الحنبلي، وشرحها في مصنَّف منفرد، وشيخ مشايخنا العلامة محمد بن عبد العزيز المانع في كتابه القول السديد، والشيخ محمد خليل هراس، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي في كتابه عقيدة المسلمين، وغيرهم. ثمّ هذه المنظومة تشبه في ترتيبها طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية، في مواضع من ترتيبه للعقيدة الواسطية.
عمومًا.. ما جاء في هذه القصيدة فهو كلامٌ حقٌّ، سواء أكانت القصيدة لابن تيمية أم لغيره، لذا على طالب العلم العناية بها، فهي قصيدة نافعةٌ ومفيدةٌ على اختصارها، اشتملت على عدّة مسائل عقديّة.
* مضمون القصيدة:
تكلم الناظم أولًا على مسألة حبِّ الصحابة وأهل البيت رضوان الله عليهم، ثم ذكر عقيدة السلف في القرآن، والصفات، والرؤية، والنزول، والميزان، والحوض، والصراط، والجنة، والنار، وعذاب القبر، ونعيمه، والحساب، وأغفلت هذه المنظومة لاختصارها مسائل مهمة: كمسألة العلو، والاستواء، والشفاعة، ومباحث الإيمان، والقدر.
* صاحب القصيدة:
ومن منّا لا يعرف أبا العبّاس تقيّ الدّين أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة الحرَّاني رحمه الله، قد أثنى عليه كثيرٌ مِن الأئمَّة والعُلماء، حتَّى لقَّبوه بشيخ الإسلام.
قال عنه الحافظ المزِّي: "ما رأيت مثلَهُ، ولا رأى هو مثلَ نفسهِ، ولا رأيتُ أحَداً أعْلم بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسول الله ﷺ ولا أتبع لهما منه".
وقال ابن سيِّد النَّاس الشَّافعي: "كان يستوعب السُّنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التَّفسير: فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه: فهو مدركُ غايته، أو ذاكرَ بالحديث: فهو صاحب علمه ورِوايته، أو حاضر بالمِلَلِ والنِّحَلِ: لم يُر أوسعُ من نِحْلَتِه في ذلك، برز في كلِّ فنٍّ على أبناء جنسه".
وقال الذّهبي موضّحًا سعة اطلاع ابن تيمية في الحديث: "يصدقُ أن يقال: كل حديثٍ لا يعرفه ابن تيمية، فليس بحديث"!
ولقد أنصفه بهاء الدِّين السُّبكي حيث قال: "ما يبغض ابنَ تيميَّة إلا جاهلٌ أو صاحبُ هَوىً، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصدُّه هواه عن الحقِّ، بعد معرفتِه له".
ولقد خلَّف ابن تيمية مكتبةً علميَّة ضخمة، حيث زادت مؤلفاته عن خمسمائة مصنَّف، ما بين رسالة صغيرة كالواسطيَّة والتَّدمريَّة والحمويَّة، ومجلَّدات عظيمة كـ: منهاج السُّنَّة النَّبويَّة، ودرء تعارض العقل والنَّقل، ونقض المنطق، والرَّدُّ على المنطقيين، وفي مختلف العلوم وشتَّى الفنون.
وقد أدخل السِّجن: آخر مرَّة في شعبان سنَّة 726 هـ، واعتقل بالقلعة، ومكث في السِّجن إلى أن توفَّاه الله تعالى في 26 من ذي القعدة 728 هـ، وكانت جنازته مهيبة عظيمة، وأقل ما قيل في عدد المشيِّعيين خمسون ألفاً! رحمه الله تعالى.