سنشرع الآن بإذن الله في شرح أبيات اللاميّة، وسوف يكون منهجي كالتالي: سأبدأ بذكر بعض المقدمات المهمّة، التي يحتاج إليها الدّارسُ لكتب التوحيد والعقيدة، فعمومُ الناس في حاجةٍ إلى معرفة القواعد، والتأصيلِ في المنهج، وخاصة في مسائل الاعتقاد. وإذا عرف المسلم قواعد في الربوبية، وقواعد في الألوهية، وقواعد في الأسماء والصفات، وقواعد في الغيبيّات، وعرف قواعد السلف الصّالح، من الصحابة والتابعين، في تعاملهم مع النصوص، أصبح مسلمًا على بصيرة، يقرأ فيفهم، ويسمع فيميّز، وتكون عقيدته راسخةً، قائمةً على القناعة والفهم، والبرهان والعلم، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، له قصبُ السبق في تأصيل تلك القواعد أو جمعها وتبينها.
وبعد المقدّمة سأذكر الأبيات المراد شرحها، فأبيّن المعنى الإجمالي لها، وبعدها حلّ العبارات وتعريف المصطلحات، ثم التعرض للمسائل العلمية والعقديّة التي تطرّق لها ابن تيمية، فنبيّن عقيدة أهل السنة والجماعة في المسألة المذكورة، وذكر الأدلة عليها، وذكر أقوال علماء الأمة، مع الردّ والمناقشة لمن خالف. وأحيانًا أذكر ما يُحتاج إليه، مما أراه مكملًا لهذه المسائل، خاصةً من أقوال وتقريرات ابن تيمية رحمه الله.
كلّ ذلك نذكره باختصار إن شاء الله، حتى نحافظ على هدف شيخ الإسلام ابن تيمية من هذه القصيدة، بأن تكون ميسرةً ومختصرة، سهلةَ التداول والفهم والحفظ، ونبدأ الآن على بركة الله:
يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبِي وعَقيدَتِي * رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَلُ
المعنى الإجمالي:
يا من سألني عن مذهبي الذي أذهب إليه، وعقيدتي التي أعتقد بها، رُزِقتَ الهدى إن كنتَ صادقًا في السؤال عن الهداية، قال تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}. وفي هذا البيت كأنّ شيخ الإسلام ابن تيمية يشير إلى سبب تأليف هذا النظم.
سبب تأليف النظم:
وهو أنّه جاء جوابًا على سؤال مسترشد عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فأجاب رحمه الله بما يذهب إليها ويعتقده، ولقد ألفّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، عدداً من الرسائل، بسبب أنه كان يفد إليه بعض الطلاب من مناطق متعددة، فيطلبون منه أن يكتب مختصراً لهم، أو كتاباً يرجعون به إلى بلدهم، وذكروا منها العقيدة التدمريّة، فهي ضمن أجوبة أجاب بها الشيخ أهل تدمر، عن التوحيد والصفات، والشرع والقدر، وكذا العقيدة الواسطية، حين قدم على ابن تيمية قاضٍ من واسط، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي دولة التتر، من غلبة الجهل والظلم، فسأله أن يكتب له عقيدةً، تكون عمدةً له ولأهل بيته، فكتبها ابن تيمية وهو قاعدٌ بعد العصر رحمه الله تعالى.
تعريفات:
- المذهب: هو ما يعتقده الإنسان جزمًا أو ظنًا بدليل، والمراد: الرأي الذي أذهب إليه.
- العقيدة: العقيدة في اللغة: من العقد والربط، وفي الاصطلاح: تطلق على ما يجب الإيمان به من الأمور الدينية.
- الهدى: هو ضدّ الضلالة.
أنواع الرّزق:
ما ألطف التعبير عن الهدى بالزّرق، في قوله: "رُزِقَ الهُدى"! لأن الكثير يتصوّر أنَّ الرزقَ محصورٌ فقط في المال، وهذا نوعٌ واحدٌ ضيِّقٌ من أنواع الرزق، بينما أنواع الرزق أكثر من أن تُحصر، الرّزق يشمل جميع جوانب حياة الإنسان، وما ينتفع به فيها، فالعلم النافع رزقٌ، والصحة والعافية رزقٌ، والزوجة المطيعة رزقٌ، والذرية الصالحة زرقٌ، والصّحبة الصادقة زرقٌ، وراحة البال رزقٌ، ومحبّة الناس رزقٌ، والإيمان والهداية رزقٌ! بل هو من أعظم الأرزاق، لأنه لا يأتي إلا بالخير والنفع، ويُسعد صاحبه في الدُّنيا والآخرة.
فما معنى الهُدى؟ يقول ابن تيمية: "لفظ الهدى إذا أطلق، تناول العلمَ، الذي بعث الله به رسوله، والعملَ به" (مجموع الفتاوى 7/1661). فمن أراد الهداية، اتّبع الكتاب والسّنة، وفهِما بفهم سلف الأمّة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"، والمعنى: أن من اتبع الهدى واستقام على الحق، فإنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، بل له الجنة والكرامة، ومن أعرض عن كتابه وسنة رسوله ﷺ، ولم يتبع الهدى، فإن له معيشة ضنكا في الدنيا، فيقع في قلبه من قلقٌ وضيقٌ وحرجٌ، وهذا من العقاب المعجل، وله يوم القيامة العذاب الأليم في دار الجحيم!
فعلى المسلم أن يطلب الهداية من الله، اقتداءً بالنبي ﷺ، الذي كان يدعو فيقول: "اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الهُدى والتُّقى، والعفافَ والغِنى"، فمن سأل الله الهداية، وبحث عنها بصدقٍ، وفقه الله لها.
اسمَعْ كَلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِهِ * لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّلُ
المعنى الإجمالي:
اسمع يا طالب الهداية والرشد، كلام رجل مدقّقٍ، تحقَّق من قوله وكلامه، لا ينثني عنه: أي لا يرجع عن كلامه ورأيه، ولا يتبدّلُ: أي ولا يغيّر اعتقاده، لأنه مأخوذ من الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة. في هذا البيت دعى ابن تيمية السائل، إلى السّماعِ لرأيه والأخذِ عنه، ووصف نفسه بأمرين: بأنّه محقّق في قوله، وبأنّه ثابت على عقيدته.
ما الذي حمل ابن تيميّة على هذه التزكية؟
الجواب من ثلاثة وجه:
الأول: أنّ هذه التزكية ليست من باب العلو والعجب والاستكبار، بل من أجل حثّ المخاطب على قبول الحق، والإقبال عليه، وهذا سائغ ومقبول.
والوجه الثاني: أنّه ثابتٌ على رأيه، لثبوت أدلته ودلالاتها عليه، فعقيدته ليست مستنبطة من عقله القاصر، وإنّما من القرآن والسنة، وإجماع سلف الأمة، حيث قال في العقيدة الواسطية: "وأنا تحرّيت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة"، وقال أيضًا: "وكل لفظ ذكرته، فأنا أذكر به آية أو حديثًا أو إجماعًا سلفيًا" (مجموع الفتاوى 3/189)، وهذه هي مصادر العقيدة الإسلامية.
والوجه الثالث: لعجز خصوم ابن تيمة عن الردّ عليه! فهذا ابن تيمية وهو في مجلس المناظرة، فيما تضمنته العقيدة الواسطية، التي كتبها لبيان اعتقاد أهل السنة والجماعة، يقول: "فقلت: ما خرجت إلا عقيدة السلف الصالح، وقلت: قد أمهلت من خالفني في شيء منها ثلاث سنين؛ فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته، فأنا أرجع عن ذلك" (مجموع الفتاوى 3/197).
فهذه الأمور التي ذكرناها، هي التي جعلت شيخ الإسلام ابن تيمية يستمسك برأيه، ويثبت على عقيدته، ويصبر على الابتلاء والمحن، ويتحمّل الظلم والسّجن، ولا يرضى أن يغيّر أو يبدّل، وينحرف عن مذهب السلف ويستبدله بغيره من المذاهب الأخرى، بخلاف أهل الأهواء والبدع، فهم كل يوم يتبدّلون عما كانوا عليه، ويتغيرون عن معتقدهم الذي هم فيه.