اختار الله تعالى لنبيّه ﷺ صحابة أخياراً، آمنوا به واتبعوه وآزروه ونصروه، وفدوه بالنفس والأموال والأوقات، فكانوا خيرَ صُحبةٍ لخير نبيّ، هذا الجيل العظيم ربّاه النبي ﷺ وأحسن تربيته، فأصبحوا صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل. ومن جملة من اختارهم الله وفضّلهم، وجعل نسلهم خير نسل: آلُ بيت النبي ﷺ، الذي هُدوا في شرف النَّسب سبيلا، وجُعلت شمسُ فضلهم في سماء العالمين دليلا. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في لاميّته:
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلِّهِمْ لي مَذْهَبٌ * وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــلُ
المعنى الإجمالي:
من علامات حبّي للنبيّ ﷺ، أني أحبّ كل من صحبه، من غير استثناء، رضوان الله تعالى عليه أجمعين، فحبّ الصحابةِ لي مذهبٌ أذهب إليه، واعتقادٌ أعوِّل عليه، ومحبةُ قرابة الرسول ﷺ، الذين هم أهل بيته، بهذه المحبّة أتقرّب إلى الله تعالى.
التوسّل بمحبة الصحابة وأهل البيت:
التوسل بمحبة الصحابة وأهل البيت: يعدّ من التوسل بالأعمال الصالحة، وهو من التوسل المشروع، حيث أنّك تتقرّب إلى الله بحبّك أنت لهم، وهذه المحبّة هي عمل صالحٌ لك أنت، تتقرّب به إلى الله، وهذا مما لا نزاع فيه، أما التوسل إلى الله بذوات الصالحين وبأعمالهم الصالحة، فهذا توسلٌ غير مشروع، لأنّه ليس لأحدٍ أن يدل على الله بصلاح غيره؛ فصلاحهم لأنفسهم، أمّا أنت فتوسّل إلى الله بعملك الصالح، وليس بعمل غيرك ولا بذاته.
من هم الصّحابة؟
الصحابة: جمع صاحب، وهو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمناً، ومات على الإيمان.
من هم أهل البيت؟
أهل البيت، هم: بنو هاشم وبنو المطّلب، إضافةً إلى زوجات النبي ﷺ، ويقول ابن تيمية: "وأفضل أهل بيته: علي وفاطمة وحسن وحسين، الذين أدار عليهم الكساء، وخصّهم بالدعاء" (الفتاوى الكبرى 5/331).
لماذا بدأ ابن تيمية بقضية الصحابة قبل التوحيد؟
الجواب: لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم هم نقلة هذا الدين، فكل من يأتي بعدهم وكان عن الهداية يسألُ، وجب عليه الرجوع إلى إيمان الصحابة، قال الله تعالى: {فإن آمنو بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق}. فالصحابة هم الذين نقلوا لنا الكتاب والسّنة، ومنها مسائل العقيدة، فإذا قَدَحتَ في النَّاقل، قَدَحتَ فيما نقله، ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تيمية كتأسيس القاعدة وبناء المنهج، أننا نحبُّ الصحابة، وبالتالي نأخذ ما رووه عن النبي ﷺ، ونفهم نصوص الإسلام، وفق ما فهموه، إن كنّا نريد الهداية والسلامة! فابن تيمية يرسّخ فينا هذه القاعدة المهمة: من أراد أن يأخذ المنهج بحق، ويُرزق الهداية بصدق، فليسلك نهج صحابة النبي ﷺ.
فضل الصحابة:
وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الثناء على الصحابة، فـالقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع كقوله تعالى: }وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ{، وقوله تعالى: }مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ {، وقوله تعالى: } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا{، والصحابة خيار المؤمنين، كما ثبت عنه ﷺ أنه قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ».
*عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة رضوان الله عليهم:
أهل السّنة يعرفون قدر الصّحابة وفضلهم ومناقبهم، ويتولونهم كلهم، ومجمعون على وجوب الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم، والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم. ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ، فقد نهي النبي ﷺ عن الإساءة إليهم فقال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه).
*عقيدة أهل السنة والجماعة في القرابة رضوان الله عليهم:
وأهل السّنة يرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم، قال ابن تيمية: "إنّ الله جعل لهم -أي لأهل البيت- حقًا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله ﷺ" (مجموع الفتاوى 3/407)، وغير ذلك من الحقوق، وقال: "إنهم يستحقون من زيادة المحبة والموالاة، ما لا يستحقه سائر بطون قريش" (منهاج السنة النبوية 4/599). هذا كلام نفيسٌ، من ابن تيمية في حقِّ أهل البيت!
فحبُّ الصّحابة والقرابة برٌّ وإيمان، وبغضهم نفاقٌ وعصيان. وما أروع ما قاله أبو محمد القحطاني:
حبُّ الصحابة والقرابة سنةٌ * ألقى بها ربى إذا أحياني
فكأنما آل النبي وصحبه * روحٌ يضمُّ جميعها جسدان
فهي روحٌ واحدةٌ في جسدين! وأهل السنة وسطٌ في حبّ الصحابة وأهل البيت؛ فهناك من غالى في محبة بعض الصحابة، كغلاة الروافض: الذين اعتقدوا الألوهية في عليّ بن أبي طالب مثلاً، أو العصمة في ذريّته وأولاده، وهناك من جافي فيهم، كالخوارج والروافض: فكفّروا بعض الصحابة أو قالوا بفسقهم! والعياذ بالله، فأهل السنّة وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلوّ والجفاء!
وَلِكُلِّهِمْ قَـدْرٌ وَفَضْلٌ سَاطِعٌ * لكِنَّما الصِّديقُ مِنْهُمْ أَفْضَـلُ
المعنى الإجمالي:
لكلٍّ من هؤلاء الصحابة، منزلته العالية ومكانته العظيمة وفضائله الكثيرة التي لا تخفى، لدلالة الكتاب والسنة، لكن الصديق أبا بكر tأفضل الصّحابة.
مراتب الصحابة:
في هذا البيت تكلّم ابن تيمية عن مراتب الصحابة، فلكلٍ من الصّحابة قدرٌ وفضلٌ، بحسب إيمانه وصحبته ونصرته للنبي ﷺ، فالصحابة رضي الله عنهم عند أهل السنة والجماعة على مراتب، بحسب ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع، من فضائلهم ومراتبهم؛ فيفضلون السابقين الأولين على من دونهم، ويفضّلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل، على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويفضّلون أهل غزوة بدر على من لم يحضرها، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به النبي ﷺ.
وأهل السنة يرون أنّ خير هذه الأمة بعد نبيّها: أبو بكر، ثم عمر، ويثلثّون بعثمان، ويربّعون بعلي رضي الله عنهم؛ كما دلت على ذلك الآثار، قال النبي ﷺ: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وفي الصحيح أنّ النبي ﷺ سئل: أيّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قال: فمن الرجال؟ قال: "أبوها". وهنا شهادة من كبير البيت الهاشمي، ينقلها لنا محمّد ابن الحنفية، فيقول: قلت لأبي (أي عليّ بن أبي طالب ﷺ): أيُّ الناس خير بعد رسول الله ﷺ؟ فقال عليّ: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال عليّ: ثم عمر، قلت: ثم أنت؟ قال عليّ: ما أنا إلا رجل من المسلمين!
قال أيوب السختياني: "من أحبَّ أبا بكر الصديق، فقد أقام الدين، ومن أحبَّ عمر، فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان، فقد استنار بنور الدّين، ومن أحبَّ علي بن أبي طالب، فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب محمد ﷺ، فقد برئ من النفاق".
أخطاء الصّحابة:
أهل السّنة ينبّهون إلى أمر: أنّه ما ثبت من خطأ بعض الصّحابة رضي الله عنهم -وهو قليلٌ في جوانب صوابهم- هم فيه: إمّا مجتهدون مصيبون، وإمّا مجتهدون مخطِئون، والخطأُ المحضُ الذي ثبت عنهم قليلٌ، ونزْر يسيرٌ، في جنب فضائلِهم ومحاسنهم؛ من الإيمان بالله ورسوله، والجهادِ في سبيله، والهجرةِ، والنُّصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، اللهم كما مننتَ علينا بحبّ الصحابة وأهل البيت، فامنن علينا بسلوك طريقهم، والتأسي بهم، والسير على نهجهم، واجمعنا بهم في دار كرامتك يا رب العالمين.